الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف المرسلين وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ، ومن تبع سنته إلى يوم الدين ، وبعد
فقد كنت وددت أن أكتب عن هذا العالم ـ الذي ودعناه قبل أيام ـ مقالاً فيه تفصيل عن حياته ، وفطنت لذلك منذ زمن ، ولكني لمست منه عدم رغبته في الحديث عن سيرته ، ظناً منه أن هذا يناقض التواضع الذي يتصف به الشيخ في حياته كلها ، فعمدت إلى حيلة أخرى ظننت أنها ستفيدنا في هذا الأمر ، وذلك أني طلبت من ابنه الأستاذ محمد أن ينتهز أي فرصة تتاح له ليظفر من والده بمعلومات في حالة الإجابة عن أسئلة عينها له ، دون أن يشعر الشيخ بأنها مقابلة ، ومع ذلك فشلت هذه أيضاً ، وأخبرني ابنه أنه لم يحصل على شيء منه .
ولما توفي الشيخ كان لابد من الكتابة عنه ولو أسطراً معدودة ، لا تفيه حقه فأقول :
عرفت الشيخ المهدي الشوماني ، ومن قبل معرفته عرفت والده الشيخ محمداً، الذي كان أحد العلماء الذين دارت عليهم الفتوى في مسلاته سنوات طويلة ، لكن معرفتي بوالده ليست عن قرب ، أما معرفتي بالشيخ المهدي فمرت بمراحل : الأولى معرفة عادية ، كما يعرف الناس بعضهم في منطقة محصورة كمسلاته ؛ إذ كنا نراه كل خميس في السوق في الفترات التي تكون عطلة لا عمل فيها ، والتي كان يجلس فيها من غير تخطيط للإفتاء .
ثم جاءت المرحلة الثانية والتي كانت أكثر قرباً ؛ إذ جمعتنا الزمالة في الجامعة الأسمرية ، وكلية العلوم الشرعية بمسلاته ، فعرفته فيها عالماً متواضعاً ، لا يتكلم ، ولا يتدخل في شيء إلا إذا وجه الكلام إليه ، ويدخل في هذه المرحلة زمالة منة نوع آخر ، أعني عندما جمعنا الموسم الثقافي الذي أقامته جمعية مسلاته لتحفيظ القرآن الكريم منذ سنوات قاربت العشرين ، فقد كان الشيخ في صحة جيدة في بدايات هذا الموسم المبارك ، وكان نصيبه ـ في الغالب ـ الإجابة عن أسئلة الناس ، ومازلت أذكر تلك المناقشة الحادة التي جرت بيني وبينه في جامع المجابرة في مسألة التبرع ببعض الأعضاء من قبل المكلف لغيره بقيود معينة ، وكان رأينا متعارضاً ، وكان الشيخ يتكلم في غير تشنج ، بل بأعصاب هادئة ، ولم تتغير نبرة صوته ، عكس ما يحدث لبعض أهل العلم .
والمرحلة الثالثة : كانت أكثر قرباً ، حيث اقترحت عليه أن نقرأ كتاب ( شرح تنقيح الفصول ) للإمام القرافي المتوفى سنة 684 هـ ، وهو كتاب معروف في أصول الفقه ، فيه غموض كثير من عباراته بسبب الاختصار ، لكنه مع صغر حجمه يحتوي على بعض ما لا يوجد في غيره من المطولات ، فرحب الشيخ بالفكرة ، وبدأنا القراءة وخصصنا لها يوماً في الأسبوع ، كان يتخلل هذه القراءة بعض المناقشات الأصولية والفرعية داخل الكتاب وخارجه ، وكنت أحضر كثيراً من الأسئلة التي ترد عليه في منزله ، خصوصاً فك رموز الوثائق القديمة التي تتعلق بمعاملات مختلفة ، وكان رحمه الله ـ يشركني فيها تواضعاً منه .
شاء الله أن لا نختم الكتاب لظروف طرأت
أما المرحلة الأخيرة : فكانت في زيارتي إياه وهو مريض ، فكنت أجلس عنده طويلاً في بداية مرضه ، وكان الحديث بيننا طويلاً يتعلق بأمور كثير ، يحسب من لا يعرفه معرفة حقيقية أنه لا علم له بها ، لبعده عن الاختلاط بالناس ، ومع أنه معروف بقلة الكلام إلا أن مجالستي له في هذه المرحلة كان هو المتكلم في معظمها ، عرفت خلالها أن يتابع الأحداث في مجتمعه .
ثم اشتد مرض الشيخ فزرته أثناءها، وجلست إلى جانبه كالعادة ، ولكنه في هذه المرات لم يزد في كلامه لي عن : كيف حالك يا دكتور ؟ ثم يغرق في صمت طويل لم أستطع معه إلا المغادرة بعد أن أصبح الحديث يدور بيني وبين ابنه فقط .
رحم الله الشيخ رحمة واسعة ، وأسكنه فسيح جناته ، وحفظنا ـ من بعده ـ من الزيغ ، والزلل ، إنه سميع قريب .
كتبه : حمزة أبوفارس
مسلاته : 9 جمادى الأولى 1431 هـ